فقط المتغابون فوجئوا بإعلان رئيس الهيئة المستقلة للانتخابات عن عدم توفر الظروف المثلى للإنجاز انتخابات المجلس التأسيسي يوم 24 جويلية. كلنا كنا نتوجس من نزول هذا الإعلان على رؤوسنا، ولكننا كنا نتوقع طلعة أبينا البهية للتصريح بالأمر. حتما كان سيبدو متحسرا على فوات الموعد، عطوفا على مستقبلنا الديمقراطي،... شغوفا بإيصال الثورة إلى شاطئ النجاة النهائي. حتما، ما كنا لنصدقه.
عندما قلنا سابقا أن الانتخابات ستتأجل، فقد كنا نعني أن كل يوم يضيع قبل صدور مرسوم القانون الانتخابي إنما يهدد إجراء الانتخابات في وقتها، ولم تتأخر الحكومة يوما أو يومين للمصادقة على ذلك القانون بل شهرا كاملا، أي ما بإمكانه تأجيل مستقبل شعب كامل وليس فقط انتخابات مجلس تأسيسي. في الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي كانت هناك رغبة جدية من معظم الأعضاء لتسريع المسار بالكيفية التي تفضي لإجراء الانتخابات في تاريخها المحدد إلى درجة أن بعض الفصول لم تأخذ حظها الكافي من النقاش، وكان رئيس الهيئة يستحث الجميع بالقول أن كل يوم تأخير يهدد الموعد الانتخابي، فإذا بالمشروع يبقى في أدراج الحكومة ثلاثين يوما بالتمام والكمال. في الأثناء كان رئيس الحكومة المؤقت وبعض المسؤولين، تعاضدهم في ذلك كل وسائل الإعلام الرسمية وشبه الرسمية وبطريقة جد متناسقة، يشنون على أعضاء الهيئة أعنف الحملات، متهمين إياهم بتعطيل المسار الديمقراطي وبوضع البلاد على شفا “حرب أهلية”. بل يقال لنا أن السيد رئيس الحكومة المؤقتة عندما عرض المشروع على وزرائه وقفوا كلهم صفا واحدا ضده لأنهم لا يوافقون على الفصل الخامس عشر. يا للعجب، لم يكن يدور بخلدنا أن الحكومة قادرة على الوقوف ! جاء تصريح الراجحي في الوقت المناسب، وأوقع الحكومة في حرج ليس بعده حرج، فوافقت على مشروع القانون الانتخابي بعد أن تأكدت من صلابة أعضاء الهيئة ووحدتهم (ما عدا بعض المتظللين بالحكومة) ضد تحوير الفصل الخامس عشر، وحتى تعطي الانطباع بأنها “تتفاعل إيجابيا” مع المنطق الذي قامت عليه الثورة. كان الأمر مجرد رغبة في إعطاء انطباع، ليس أكثر. ذلك أن الحكومة لم تفعل شيئا من أجل أن تتم الانتخابات في وقتها، لا لوجستيا ولا فنيا، ولو كانت صادقة في عزمها لأعدت للهيئة المستقلة للانتخابات كل الظروف حتى إذا ما تشكلت وجدت قاعدة تنطلق منها وتختصر بها الوقت. كل ما فعلته الحكومة ورئيسها كان إثارة الشكوك حول كل ما يقربنا من الانتخابات، والاهتمام بكل شيء إلا بتوفير الظروف للانتخابات، وبعد ذلك محاولة التفصي من المسؤولية بإبداء التمسك بالموعد المحدد. عندما تأتي حكومة بهدف إنجاز انتخابات، فإنها تترك جانبا كل ما يعطل إجراءها. أما “حكومتنا” فقد تعمدت التدخل في التنافس الحزبي وتخويف الناس بطريقة ضمنية من أن إجراء الانتخابات على أساس هذا القانون سيمهد الطريق لسيطرة طرف معين على المجلس التأسيسي، وهو استغباء واضح للجميع. فالقانون الانتخابي يضمن بطريقة لا تدعو للشك فسيفساء من الأحزاب في الهيئة المنتخبة القادمة، كما أن عراقة وصلابة التيارات الأخرى، وتجربة التونسيين التي أضحت أصيلة في التصدي للاستبداد، كل ذلك لن يسمح لطرف مهما كان في مصادرة حقهم في الحرية والكرامة مجددا. بالإضافة إلى ذلك فلم يكن من حق رئيس الحكومة التدخل في هذا الشأن، فهو لا يعنيه.
يمكن لكل ذي رأي، عن طريق ربط الإشارات بعضها ببعض، أن يرى بكل الوضوح الممكن أن الحكومة لم تكن جادة في احترام الموعد الانتخابي ليوم 24 جويلية، ولكنها اليوم تريد أن تلقي بالمسؤولية على الاعتبارات التقنية. عن طريق توفير ظرفية غير ملائمة لإجراء الانتخابات في وقتها، كانت تتوقع ما حصل بالضبط: تصريح رئيس الهيئة المستقلة للانتخابات بعدم إمكانية توفير ظروف انتخابات نزيهة وشفافة في الموعد المحدد من طرف الحكومة نفسها. في البلدان الديمقراطية، وليس في البلدان التي تشهد ثورة، يتطلب الأمر استقالة على أدنى تقدير، ولكن ذلك لن يحصل طبعا. منذ أكثر من ثلاثة أسابيع ونحن لا نقرأ إلا الأخبار عن احتمال التأجيل، وقد كان تصريح السيد عياض بن عاشور بتلك الإمكانية جزءا من صورة لا نعرف إن كان قد وضع فيها مكرها أم موافقا.
نحن نعرف حتما أن انتخابات تنظم في الظروف المثلى خير من انتخابات تنظم في ظروف استثنائية، كما نعرف أن الانتخابات لن تحل كل مشاكل الكون، وأن المجلس التأسيسي لن يجد شغلا لكل العاطلين، ولن يحقق بين عشية وضحاها كل آمال التونسيين، فهذا موضوع آخر. الوضع استثنائي، هذا صحيح، ولذلك يجب أن تجري هذه الانتخابات في أقرب وقت ممكن، أي في وقتها المحدد. فبها ننطلق من الوضعية المؤقتة لكل السلطات إلى وضعية عادية تمتلك فيها المؤسسات ما يكفي من الشرعية لإنجاز ما يتوجب على كل حكومة في الأوقات العادية. فيما عدا ذلك، فإن الحكومة الموجودة الآن ستنتقي مجالات تدخلها بما يلائم أجندتها الخاصة وأجندة كل القوى الملتفة حولها، وكثير منها لا يريد الانتخابات أصلا.
من لا يريد إجراء الانتخابات في وقتها المحدد: بعض الأحزاب الظاهرة، وكثير من القوى الباطنة. ترى الأولى أن الوقت لا يكفي للاستعداد للموعد، واعتباراتها بالأساس حزبية وإن صرحت بالعكس أحيانا. أما الأخرى، فإنها تحتمي وراء التأجيل من أجل الوصول إلى الغاية الوحيدة التي تريدها: تبريد الساحة وقتل الحماس لتحقيق الأهداف الدنيا للثورة في وسط الرأي العام وإصابتنا جميعا بحالة من اليأس نرضى معها بأقل من الحد الأدنى. هذه الأطراف التي لا تشتغل إلا في الظل هي من يملك القرار الحقيقي اليوم، وهي لا تريد انتخابات، وإن تمت فإنها لا تريدها نزيهة، وإن تمت بنزاهة فإنها لا تريدها أن تسفر عن حكومة ذات شرعية شعبية كبيرة قادرة على فتح كل الملفات المقلقة، لأن أسماءها وجرائمها هناك في تلك الملفات. هذه الحكومة انتقالية، لذلك فإنها تقول أنه ليس بوسعها السير في بعض الطرقات التي يطلب منها الجمهور السير فيها، وأهمها المحاسبة. ولأنه لا يمكن السير في طريق آمن دون محاسبة، فإن الطريق سيبقى غير آمن من دون انتخابات. ليكن بيننا هذا الرهان: نتحدى الجميع، إذا ما قررت الحكومة (على عكس ما سيقع) عدم تأجيل الانتخابات، أن لا يقع فتح السجون مجددا لإطلاق المنحرفين، وأن لا تحصل هجمات على الأملاك الخاصة والعامة، وأن لا يعاد ما حدث يوم 7 ماي بالشارع الرئيسي بالعاصمة. مشكلتنا جميعا أننا نفهمهم، ومشكلتهم الوحيدة أنهم لا يفهموننا، وإذا ما تأجلت الانتخابات فإن “سوء الفهم” سيتواصل، وسيتضخم، وربما رأينا شبح القاعدة في مضاجعنا هذه المرة.
أما الأطراف الأخرى، التي تعتقد أن الديمقراطية تعني الحكم، فإنها ستسعد بالتأجيل وإن أبدت العكس، فلربما عاد الحديث عن انتخابات رئاسية وهي التي ما رغبت يوما في تأسيسي ولا في دستور. ولربما وجد آخرون، ممن لم يملوا من تكرار فكرة أن التونسيين لا يزالون في حاجة إلى خمسة عقود من الزمن للوصول إلى الديمقراطية، أن في الأمر بعض الحسنات، فأن لا ينتخبهم الناس يعني دائما أن الشعب غير ناضج للديمقراطية.
والآن، هل وجب التعامل مع التأجيل بدعوى الصعوبات اللوجستية كأمر نهائي؟ سيكون كذلك إذا لم يتحمل كل الراغبين في رؤية الأوضاع تسير سيرها النهائي نحو الاستقرار مسؤولياتهم. ليكن موقف الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة منسجما مع مواقفها السابقة في هذا الشأن: لا لتأجيل الانتخابات، ولا لإدامة الصيغة المؤقتة لكل السلطات. ولتكن الهيئة العليا المستقلة للانتخابات التي نعتقد أنها لا تتحمل المسؤولية في ما آل إليه الأمر، في مستوى أقصى تطلعاتنا، بجعل التأجيل حلا نهائيا وليس ابتدائيا. لقد انتخبت هذه الهيئة لتكون مصارعة وليس مستسلمة، فلتصارع إذا. أما الحكومة، فهي تعرف ما عليها أن تفعل إذا أرادت بالفعل أن تتم الانتخابات في وقتها: وضع كل الإمكانيات الممكنة تحت تصرف الهيئة والموعد الانتخابي وجعل الأمر أول أولويات البلاد. وأما أهم عنصر في هذه الصورة كلها، فإنهم أولئك الذين أنجزوا هذه الثورة الذين يريدون الاطمئنان إلى تحقيق أهم أهدافها، أولئك الذين لن يسمحوا بالتلاعب بآمالهم وأحلامهم في الدولة المدنية والديمقراطية والعادلة. فإن لهم قولا يجب أن يستمع إليه، وقد كان دائما القول الفصل، ولو كره المؤجلون. أما كل ما عدا ذلك من حسابات، سواء كانت حسابات
شمس أم حسابات ظل، فإلى الجحيم
Source :